الاثنين، ٢٠ نوفمبر ٢٠٠٦

الحقيبة ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى


قصة مصرية
مقاومة الاحتلال الأمريكى فى اليابان

الحقيبة

قصة محمود البدوى


دخلنا فى عاصفة عاتية قبل أن نبلغ طوكيو ..

وأخذت الطائرة الضخمة تتأرجح وتلعب بها الأنوار ..

وكان بجوارى راكب من سنغافورة .. لم يستطع أن يصمد فى كرسيه فأخذه القىء .. وخشيت أن تصيبنى عدواه .. بعد أن أصبحت المضيفات الثلاث عاجزات عن إسعاف الركاب لكثرة من أصيب منهم بالدوار فى ساعة واحدة ..

فتحركت من مكانى إلى أربعة صفوف أمامية فى الدرجة السياحية .. كانت خالية تماما من الركاب ..

واسترخيت على الكرسى الطويل .. معلقا عينى بعد أن أغلقت أزرار المصابيح المضاءة فوق رأسى .. وزر مكيف الهواء أيضا .. فقد كنت أود أن أنام .. وأغيب عن وعيى حتى تنجلى العاصفة .. ولقد أفلحت فى هذه المحاولة فعلا وانقضت فترة طويلة وأنا لا أحس بشىء مما يجرى حولى .. ثم فتحت عينى فوجدت المكان قد شغل براكب آخر .. ولعله آثر أن يفعل كما فعلت .. ولكنه لم يكن فى مثل حالى ..كان متيقظا تماما وليس على وجهه أى أثر للإعياء ..

ولما رآنى أفتح عينى وأحدق فيه برهة قال بإنجليزية فيها لكنة .. لقد مرت العاصفة ..

وأشار إلى اللافتة المضيئة التى تحمل فى مضمونها هذا النبأ .. والتى تعلن فك الحزام الذى يربطنا بالكرسى ..

وقدرت من جلسة الرجل وملامح وجهه أنه صينى من هونج كونج أو تاجر من أهل سيام .. ذاهب فى مهمة إلى طوكيو .. ثم ظهر لى من حديثه أنه يابانى من سكان طوكيو نفسها وأنه كان فى مهمة فى الخارج وعاد إلى وطنه .

ولما علم أننى مصرى فى رحلة سياحية إلى طوكيو .. تهلل وجهه .. وقال :

ـ لقد تخلصتم من الاحتلال الإنجليزى بضربة قوية .. وسنفعل مثلها لنتخلص من الأمريكان ..
ـ إن شعبكم قوى ولا يمكن أن يرضى بأى احتلال ..
ـ لقد فرضته علينا الحرب .. وهذا أشد شر فيها ..

وانطلقنا فى فنون الأحاديث .. وكلما مرت دقيقة ازداد الرجـل مودة لى والفة .. وطلب من المضيفة كأسين من النبيذ ..

ثم أخذ يقص علىّ سيرة حياته ويفتح لى من طوايا نفسه .. حتى علمت منه أنه عضو فى جمعية لمقاومة الاحتلال الأمريكى لليابان ، وأنه كان فى مهمة خطيرة ويحمل معه فى هذه اللحظة حقيبة صغيرة .. وفيها أشياء لو ضبطت معه سيعدم ..

وسألته :
ـ أين هى ؟
ـ هناك على الرف ..

وأردف ببساطة :
ـ هل يمكن أن تحملها عنى .. إنى أنمر فيك مذ ركبنا الطائرة .. ولن يفتشوك فى الجمرك ولن يفتحوا حقائبك اطلاقا ..
ـ وإذا فتحوها..
ـ لن يمسوا منك شعرة .. لنا وسائلنا ..
ـ ما دامت الحقيبة تساعد على انهاء الاحتلال فى اليابان .. فإنى احملها كجندى متطوع ..

فتهلل وجهه أكثر .. وقال بابتهاج :
ـ هذا ما قدرته .. إنك باسل ..

وأعطانى بطاقة فيها العنوان الذى أحمل اليه الحقيبة .. إذا حدث شىء يمنعنا من المقابلة فى بوفيه المطار .. بعد أن تتم جميع الإجراءات .. وطلب كأسين من النبيذ ..

وناولنى الحقيبة ولم تكن عليها أية بطاقة فوضعتها بجانبى ببساطة ..

والواقع أننى كنت أتصور أن المسألة سهلة .. ولكن لما هبطت الطائرة على الأرض وأمسكت الحقيبة فى يدى شعرت برجفة هزت كيانى كله .. ولم تكن ثقيلة ولكننى أحسست بها تخلع كتفى ..

وكان معى حقيبة أكبر منها على الرف ومعطف .. فاضطررت أن أرتدى المعطف مع أنه لم يكن هناك برودة .. لأستطيع أن أحمل الحقيبتين ..

ونزل مسيو كوجا أمامى على سلم الطائرة .. ونزلت وراءه .. ولكنه اختفى عن نظرى ..ثم ظهر مرة أخرى فى صالة المطار الكبرى عندما اجتمع جميع الركاب .. وأخذ موظف فى المطار .. ينادى الركاب بأسمائهم وشعرت بالاضطراب الشديد وأنا واقف وحدى .. وقلت لنفسى من يدرى .. لعل الرجل خدعنى بالحديث الوطنى وأشعل فىّ النخوة .. وهو فى الواقع ليس أكثر من مهرب وليس فى الحقيبة سوى مهربات جمركية .. عملة مهربة أو جواهر ..وإذا ضبطت ستكون فضيحة لى .. لقد البسنى الرجل التهمة بكل بساطة وهرب .

وظللت فى دوامة عاصفة من الخواطر أكثر من ثلث ساعة .. وأنا جـالس فى صالة المطار ..

ورأيت أن حركة انجاز أوراق الركاب تتم ببطء ودقة .. مع أننا لم ندخل منطقة الجمرك بعد .. فكيف إذا دخلناها .. وندمت على تسرعى .. وبحثت عن الرجل لأرد له الحقيبة ولكننى لم أجده فقررت أن أتركها .. بجانب الكرسى ..

ولكن عندما دخلت من باب الجوازات كانت فى يدى وتركت الأمر للمقادير تفعل بى ما تشاء ..

ولما دخلت المنطقة الجمركية بعد إجراءات طويلة معقدة .. وجدت حقائبى كلها قد أخرجت من الطائرة ووضعت داخل الحاجز الجمركى مع حقائب الركاب ..

وكان موظفو الجمارك فى الناحية المقابلة لى يفتشون حقائب أخرى .. ولاحظت أنهم يفتشون كل حقيبة تفتيشا دقيقا ..

وجاء دورنا .. رفعوا حقائبنا عن الأرض ووضعوها على الطاولة المستديرة .. ولكننى بقيت فى مكانى لم أتحرك .. ظللت بعيدا وعقلى يشتغل بسرعة ..

وعندما جاء فوج من الأجانب وقدرت أن فيهم بعض الأمريكان وقفت فى زحمتهم وحقائبى كلها وسط حقائبهم ولاحظت أنهم يفتحون جميع الحقائب ويفتشونها بدقة ويسألون دائما عن السجائر والويسكى ..

وهنا أخرجت المفاتيح من جيبى وفتحت جميع الحقائب بما فيها حقيبتى الصغيرة التى كانت فى يدى .. وأبقيت حقيبة الرجـل تحت الحاجز الخشبى بين رجلى ..

وجاء الموظف وفتش حقيبة من حقائبى فقط ثم شغل بمشادة بين زميل له وأحد الركاب وكان قد وجد فى حقيبته سجائر لم يخطر عنها .. وعلا صياح الراكب وتجمع حوله الركاب .. ولما عاد الموظف إلى مكانه .. نظر إلى حقائبى المفتوحة ..

وقال :
- يمكنك أن تغلقها ..

ورأيته قد استدار ليختم مشط سجائر وجده فى بعض الحقائب .. وأخذت أغلق حقائبى .. وأنا أرقبه .. رفعت حقيبة الرجل ووضعتها وسط الحقائب المفتشة دون أن يلحظ ذلك أحد .. وقفز قلبى وأنا أفعل ذلك .. وتصبب العرق ..

ولكن لما وجدت أن أحدا لم يشاهد هذه الحركة طرت من الفرحة ..

وسألنى الرجل عندما واجهنى مرة أخرى ..
ـ كم حقيبة معك .. ؟
ـ سبعة ..
ـ وفتشت كلها .. ؟
ـ أجل ..
ـ وليــس مـعك سجائر .. ولا ويسكى .. ولا أى شىء ممنوع ..؟
ـ إطلاقا ..

وكان فى أثناء كلامه يضع العلامة على كل حقيبة بالطباشير ثم توقف .. وكأنه ارتاب فى حقيبة الرجل .. فنظر اليها قليلا بامعان ..

ثم سألنى :
ـ وهذه هل فتشت ..؟
ـ أجل .. هل أفتحها مرة أخرى ..؟
ـ أظن أنه لا داعى ..

ووضع العلامة على الحقيبة بالطباشير ..

حدث هذا فى سرعة رهيبة .. وكأنما فك حبل المشنقة عن عنقى ..

وتركت الموظف يشير بيده للعمال الذين وضعوا الحقائب كلها على السلم الكهربى .. ليذهب بها سريعا إلى خارج حاجز الجمرك ..

***

واتجهت إلى السلم الذى سيقودنى إلى الخارج وأنا شاعر بفرحـة كبرى .. وقبل أن أبلغ آخر درجة .. رأيت كوجا يسير أمامى .. ولكنه لم يكن وحده كان بجانبه اثنان من البوليس الحربى الأمريكى وجنديان يابانيان وكانوا جميعا يحملون المدافع الرشاشة .. وأدركت أنه وقع فى أيديهم ..

وأسرعت خلفهم .. حتى رأيتهم يدخلونه سيارة مغلقة .. ومضوا به سريعا ..

وشعرت بشىء ثقيل يضغط على قلبى ويكتم أنفاسى .. وعدت إلى الداخل وأنا أخرج من قاعة وأدخل أخرى .. كأنى أدور فى بيت جحا .. حتى وجدت نفسى فى القاعة الكبرى المعدة لراحة المسافرين ..

وجلست على كرسى جلدى وأغلقت عينى .. نصف دقيقة ولما فتحتها كنت أنظر بقوة إلى اللوحة المضيئة لمدينة طوكيو والسهام النارية التى تنطلق منها إلى جميع أنحاء العالم ..

وأخذت أفكر فيما أفعل بالحقيبة بعد أن قبض على صـاحبها بسرعة فائقة .. ورأيت أن ألحق سيارة شركة الطيران قبل أن تتحرك من المطار .. بدلا من ركوب تاكسى إلى الفندق ..

وأخرج عمال الشركة حقائبى ووضعوها فى السيارة .. وحملت حقيبة الرجل فى يدى ودخلنا فى المدينة الحالمة ذات الأنوار على الجانبين والسيارات تنطلق كالسهام ..

وأنسانى جمال المدينة .. وجمال النساء فى الكومينو .. ونظافة الشوارع .. وبهجتها كل ما يتعلق بالحقيبة .. واخترت غرفة فى الدور السابع فى الفندق لأكون بعيدا عن زحمة النـزلاء الذين يتركزون عادة فى الأدوار السفلى .. ولأبعد أيضا عن ضجيج المدينة التى تظل ساهرة إلى الصباح ..

وتعشيت فى الفندق وخرجت إلى المدينة أمشى كما أتفق مستعرضا واجهة الحوانيت ..

ولم يكن الجو شديد البرودة .. وكنت أرتدى المعطف .. وقد ساعدنى هذا على أن أتجول أكثر وأكثر .. وكان عقلى فى الواقع يشتغل وأنا لا أدرى ويحاول أن يبعدنى عن مكان الحقيبة ..

وجذبتنى الأنوار البراقة فى ملهى على شكل سفينة قريبا من محطة شمباسى فاتجهت نحوه وبجوار كشك التذاكر وجدت ثلاث فتيات يرتدين فساتين سواريه وصدرهن العارى يبرز كل مفاتنهن ..وتطلعن إلى وجهى .. ووجدت واحدة منهن تعرف الإنجليزية فشرحت لى نظام السفينة ..

وحجزت " كمرة " بألفين فى الدرجة الأولى .. وصعدت مع الفتاة إلى الأدوار العليا ..وفى ممشى السفينة الدائرى .. فتحت لى بابا صغيرا .. وأصبحنا وحيدين فى غرفة صغيرة أنيقة على شكل الكاميرا فى عابرات المحيط ..

وكان لابد أن نشرب شيئا وكل كأس بألفين ..

وسألت الفتاة عن الشراب الذى ترغبه فرفضت وقالت إنه لاداعى لأن تشرب هى .. وتحت الحاحى قبلت أخيرا .. وطلبنا كأسين من الويسكى .. ولاحظت ساسا بعد أن فرغنا الكأسين .. أنى شارد الذهن ..

فسألتنى :
ـ ما بك ..؟
ـ لا شىء ..
ـ ألا أروقك ..؟
ـ بالعكس أنت فتنة فى النساء ..

وكان الموقف الطبيعى يقتضينى أن أعانقها وأشرب من رحيـق شفتيها .. ولكننى جلست جامدا ولم تبد منى أية حركة ..

ولما حركتنى بسؤالها .. اكتفيت بأن مددت ذراعى الأيمن اليها وطوقتها .. وأخذت أمسح بيدى على ذراعيها .. فاستراحت إلى هذه الحركة وأخذت تديم النظر إلى وجهى الجامد .. فابتسمت وطلبت من الساقية كأسين آخرين..

وفى خلال الشراب حدثتها بصراحة عن الحقيبة وما حدث من القبض على صاحبها فى المطار ..

ورأيت سحنتها تتغير .. كأنما أصابتها رجفة .. ثم عادت إلى امتلاك أعصابها ..

وسألتنى :
ـ فى أى فندق نزلت ..؟
ـ يوكاهاما .. غرفة 703
ـ إنه بعيد جدا عن هنا ..
ـ نصف ساعة بالسيارة ..
ـ لا .. أكثر من ذلك .. اذهب فى الحال وابعد هذه الحقيبة عن غرفتك ..
ـ وأين أذهب بها ..؟
ـ أترى هذه الترعة .. القها فيها .. أو فى أى مكان من السهل أن تتخلص منها .. لأن هذا يسبب مشكلة ..
ـ ربما يكون الرجل مهربا .. وفيها جواهر

فضحكت .. وقالت
ـ لا داعى لأن تمزح .. أسرع وتخلص منها ..
ـ ماذا تصورت فيها ..
ـ ديناميت .. خرائط .. تصور معسكرات الأمريكان وأماكن احتلالهم فى طوكيو وغيرها .. أنت سائح مسكين .. وستعدم دون ذنب ..

فارتجفت ..
وسلمت عليها وهرولت إلى الخارج ..

***

وركبت تاكسى إلى الفندق وقال لى موظف الاستقبال بأدب زائد .. وأنا أتناول منه المفتاح ..
ـ هل يمكن .. أن تنتظر لحظة يا سيد بدر الدين ..
ـ لماذا ..؟

وقد أحسست بالعاصفة تقترب ..
ـ الظاهر أنه حدث سوء تفاهم منذ القبض على كوجا فى المطــار .. يريدون فقط أن يسألوا الركاب الذين كانوا معه ..
ـ إن هذا حماقة ..
ـ إنهم حمقى هؤلاء الأمريكان ..

وقلت لنفسى أننى أكثر حماقة لأننى مراقب منذ غادرت المطار والعيون ورائى فى كل خطوة .. وأنا لا أدرى ..

وسألته ببلاهة ..
ـ وكيف عرفوا مكانى ..؟
فقال ببساطة :
ـ إن شـركة الطيران .. وزعتكم على ثلاث فنادق معروفة ..

وأدركت مبلغ حماقتى لأنى ركبت عربة الشركة .. فطوكيو مدينة ضخمة كالمحيط وكنت أستطيع أن أغوص فى أعماقها ولا يعرف أحد مكانى لو لم أركب عربة الشركة وأجعل الخيوط فى أيديهم ..

ولمحت ثلاثة رجال فى ملابس مدنية يتقدمون نحوى ببطء .. وكنت أود أن أمرق كالسهم من الباب الدوار وانطلق بأقصى سرعة ولكننى استبشعت هذه الحركة فى فندق كبير كهذا ..

وقال لى أطولهم وهو الأمريكى حتما :
ـ هل يمكن أن نلقى نظرة على غرفتك ..؟

فاستبسلت وسألته بصوت قوى ضخم فيه لهجة الاستنكار ..
ـ لماذا ..؟
ـ إن هناك حقيبة مغلوطة فلتت من المطار ..

وفى تلك اللحظة كان من السهل علىّ جدا أن أقتل أى واحد منهم لو كان معى سلاح ..

ومشينا صامتين إلى المصعد .. وفى الطرقة الطويلة تقدمتهم إلى غرفتى .. وأعطيت فتاة لطيفة من عاملات الفنـدق المفتاح لتفتح لهم الباب .. لأتفادى رعشة يدى وأنا أدير القفل ..

وفتحت الفتاة الباب ودخلوا ودخلت معهم وأنا أحس بقلبى قد توقف عن الخفقان ..وعندما توسطت الغرفة انتابنى احساس من البلادة وفقدان الحساسية عجبت له وأدركت أنه نفس الاحساس الذى ينتاب من يصعد سلم المشنقة ..

ولكن عندما وقع نظرى على الحقائب عاد إلى الإحساس بالموقف أشد وأعظم واضطربت جدا .. ثم كادت أن تفلت من فمى صرخة مدوية صادرة من الأعماق .. فقد اختفت حقيبة الرجل من الموضع الذى وضعتها فيه .. وبحثوا فى كل ركن فلم يجدوا سوى حقائبى .. وفتحتها جميعا وجعلتها تحت أنظارهم وحيوا وانصرفوا ..

وودعتهم على باب الغرفة مزهوا ..

وجلست بعد أن ذهبوا أستريح وأشرب القهوة وأنا أفكر فى الملاك الذى طار بالحقيبة فى اللحظة الحاسمة ..

ونمت نوما عميقا ..

***

وفى الصباح خرجت أتجول فى المدينة وقد كف ذهنى عن التفكير فى اختفاء الحقيبة وقد عللته بأى سبب ..ربما تكون ادارة الفندق قد عرفت الحقيبة لأنها الوحيدة التى لاتحمل بطاقتى فانتزعتها من الحقائب بسهولة وخلصتنى من شرها ..

ونسيت الأمر كلية ..

***

وفى الليل ذهبت إلى ملهى السفينة .. لأرى ساسا .. وقالت وأنا داخل عليها وقد أشرق وجهها ..
ـ جئت مرة أخرى ..
ـ بالطبع ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى أحبك ..
ـ أوه ما أكثر ما سمعت هذا الكلام .. ولماذا تحبنى ..
ـ لأنك جميلة ..
ـ ما أكثر الجميلات فى طوكيو ..
ـ الواقع أننى عاجز عن التعبير .. لايوجـد سبب ملموس لحبى .. هناك ما هو أعظم من الجمال ومن الصفاء اللذين فيك ..
ـ هذا أحسن .. والمهم هل عثروا على الحقيبة ..؟
ـ ابدا .. لقد اختفت من الغرفة ..
ـ اختفت .. ؟

وضحكت بخبث .. وعلمت منها ما حدث .. خشيت ألا أصل إلى الفندق فى الوقت المناسب .. فاتصلت فى الحال تليفونيا بالطابق السابع الذى فيه غرفتى .. وكانت تعرف هناك فتاة من العاملات تدعى نيدا وحدثتها بأمر الحقيبة وطلبت منها أن تخرجها من الغرفة فى الحال .. وكان من السهل أن تستدل نيدا على الحقيبة لأنها الحقيبة الوحيدة التى لا تحمل بطاقة وعليها كتابة باليابانية فأخرجتها فى الحال ..

ـ وأين هى الحقيبة الآن ..؟
ـ فى مكان ما ..
ـ هل عرفت أنهم فتشوا غرفتى .. ؟
ـ أجل .. وكنت أقدر هذا ولذلك أخفيت الحقيبة ..
ـ إن هذا عمل عظيم لن أنساه لك ..
ـ لاداعى لمثل هذا الكلام ..

ونظرت إلىّ فاحتضنتها .. وأنا أقول ..
ـ لابد أن أحمـــل الحقيبة إلى العنوان الذى تركه لى الرجل ..
ـ ليس من الضرورى الآن انتظر اسبوعا ..
ـ لابد من هذا سريعا ..
ـ انتظر اسبوعا .. وسأذهب معك ..
ووافقتها على ذلك ..

***

ومر اسبوع .. واتفقنا على أن نتقابل فى محطة من محطات المترو الذى تحت الأرض .. وتكون معها الحقيبة .. ونركب من هناك إلى المكان الذى عينه لىّ الرجل ..

وفى الموعد المحدد انتظرتها .. وجاءت رشيقة جميلة وبيدها الحقيبة وأخذتها منها .. وذهبنا نضع بضعة ينات فى الآلة الأتوماتيكية .. وتناولت نيدا التذكرتين ..

وفى أثناء دورانى فى فناء المحطة المسقوف رأيت رجلا عرفته من عينه وكان هو كوجا بعينه وكان يرتدى معطفا سميكا ويضع على عينيه منظارا أسود ..وبيده عصا وعلى رأسه قبعة عريضة .. وكان مشوش الهندام غير حليق على غير ما عهدته فى الطائرة ..

وبحركة سريعة تناول منى الحقيبة وشد على يدى وهو يقول :
ـ كنت أعرف أنك ستأتى بها .. إنك شجاع .. لقد أعدت إلى قلبى .. وأقبل المترو .. فأخذها ومضى ..

***

وقلت لساسا وأنا أصعد بها سلم المحطة ..
ـ والآن أين نذهب ..؟
ـ كما تحب ..
ـ هل تذهبين معى إلى الفندق لنشكر نيدا على الأقل .. ؟
ـ فكرة رائعة ..

وفى شارع جنـزا رأيت فى كشك صغير صورة كوجا .. فى صحف المساء وكان تحتها نبأ هروب بخط كبير ..

ولما رأت ساسا الصورة ضحكت .. وضغطت على يدى ..
===============================

نشرت القصة فى صحيفة الشعب 2841958 وأعيد نشرها بمجموعة قصص من اليابان من اعداد
وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2001
========================================


الدليل ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى


الدليـــل

قصة محمود البدوى

طوكيو مدينة ضخمة وعميقة كالمحيط والغريب فيها لا يستطيع أن يخطو خطوة من غير دليل ..

وكان المستر ميشى هو دليلى منذ خرجت من المطار .. وهو رجل متوسط الجسم سريع الحركة .. ويجيد اللغة الإنجليزية إجادة أستاذ لها ويعرف كل شبر فى المدينة .. والشىء التاريخى يقترن فى دقته بالبناء العصرى .. فمعبد بوذا كبرج التليفزيون كلاهما لابد أن تراه ..

ومنذ هبطت المدينة وأنا أتنقل فى صحبته بالتاكسى .

ثم أشفق على جيبى وأصبحنا نركب الترام .. ولقد أدركت بعد ثلاث رحلات بالترام أنه إلى جانب الوجه الاقتصادى للمسألة فإنه يود أن يغفو فى زحمة الركاب ..

فقد كان يحدثنى وهو مغمض العينين .. ثم ينقطع صوته فأتصور أنه قد نعس فعلا من فرط سكون ملامحه .. وإرخاء جفونه .. وأخاف أن نكون قد تجاوزنا المكان الذى نقصده وعلينا أن نركب الترام الراجع .. ونستقبل من طريقنا ما استدبر ..

وفجأة أسمعه يرد على خواطرى بقوله : ـ
ــ بقيت ثلاث محطات على شمباسى .. تفضل سيجارة ..
وكان يخرج علبة سوداء فى حجم الكف .. فأعتذر له بأنى لا أدخن .. وكنت أقدر بأنه أصابه شىء حتما من شعاع نجازاكى أو هيروشيما .. وجعله بهذه الحالة ..

فقد حدثنى أنه عاصر الحرب العالمية الثانية واكتوى بنارها .. وشاهد النكبة التى حلت بالمدنيين المساكين .

***

وكان الرجل يخصص اليوم كله لتجولاتى .. فقد شاهدت فى خلال صحبته كل ما يمكن أن يراه زائر للمدينة الكبيرة ..

ولم يكن يطلب أكثر من ألف ين فى اليوم ثم أصبح يأخذ خمسمائة فقط .. وكنت أجد هذا المبلغ ضئيلا فى مقابل الخدمات التى يؤديها لى فى مدينة ندر أن تجد فيها من يتحدث بغير اليابانية والجمهور فيها يكره الأجانب ويغلى من الغيظ .. بسبب الاحتلال الأمريكى .

وليس فيها اسم لشارع أو ترقيم للبيوت .. فإنك تمضى فى تيه من الشوارع المتشابهة ..

وإذا سرت فى حى جنزا فى الليل فإنه يلفك فى سحره وضبابه ولا تعرف كيف تخرج منه ابدا أو تسترد أنفاسك المبهورة .. وإذا اتجهت إلى قصر الإمبراطور فإنك تجد نفسك قد بلغت بناية المحطة وسمعت صفير القطر فى محطة فى جدولها ألف وسبعمائة قطار فى اليوم بين خارج وداخل .

وإذا ركبت تاكسى وحدثت السائق بالإنجليزية لف بك ساعة .. ثم وقف بك بجوار عسكرى المرور .. ليستعلم عن وجهتك بالدقة .

وقد أعفيت نفسى من كل هذه المشقة بالمستر ميشى .. وكان فى حوالى الخمسين من عمره .. ومصبوبا صبا .. لايكل من المشاوير ويبدو لى أنه زاول المصارعة اليابانية فى شبابه ..

كما بدا لى أنه ليس رب أسرة .. ولا يعول أحدا على الإطلاق .. لأنه كان يقضى الليل فى الحى الذى نقضى فيه آخر جولة لنا وينام كما اتفق .. مرة وجدته فى الصباح جالسا فى مدخل الفندق فأدركت أنه قضى الليل على هذه الحالة .

وكان يجيد الكتابة أكثر من إجادته للحديث حتى تصورته أحد أساتذة الجامعة المتقاعدين وكان يقدم لى بعد كل رحلة فى تواضع الأستاذ كراسة منمقة تصف ما شاهدناه بالأمس .. وقدم لى مرة ست عشرة صفحة من حجم الفولسكاب عن معهد الصم والبكم فى المدينة وكانت بأسلوب بلغ الذروة فى الوصف والسرد الأدبى .

وكان كل شئ جميلا فى طوكيو .. وكنت أسبح فى بحر من الجمال الأخاذ ليس له نهاية .. ولكننى بعد سبعة عشر يوما أحسست بالتعب من الضجيج فى قلب العاصمة ومن الراقصات العاريات فى الملاهى .. ومن السيارات التى تنطلق فى جنون وأنوارها تغشى البصر ومن الناس الذين يشربون الساكى فى المشارب الشعبية .. ومن لاعبى القمار بالأكر والبلى .. ومن نساء الليل اللابسات الفراء والمنتظرات تحت البواكى فى الظلام ومن كل شئ يمزق الروح البشرية ويخدر الحواس .

وكان جنود الاحتلال يحتلون قاعات الفندق الذى أنزل فيه ويمضون عطلة نهاية الأسبوع فى يومى السبت والأحد فى صخب وصراخ .. فتضايقت من وجودهم ..

وخرجت مع المستر ميشى إلى ضواحى المدينة وأبديت له رغبتى فى أن أتذوق الساكى الشراب الوطنى .. وكنت أسمع عنه .. وأحب أن أعرف طعمه .. فمضى بى إلى مشرب مشهور يقدم أجود أنواعه .. ولاحظت وأنا جالس فى المشرب بناية من طراز يابانى عتيق .. ساكنة وكل ما حولها ساكن .. وعلى الواجهة أنوار خافتة تتدلى من قناديل .

وسألت ميشى :
ــ ما هذه البناية .. معبد ...؟
ــ لا ... إنها نزل ..
ــ وهل أجد فيه غرفة ...
ــ هل فكرت فى أن تترك فندق يوكوهاما ..
ــ أجل .. أحب هذا الطراز اليابانى البحت .. وأرغب فى أن أكتب مذكراتى عن طوكيو .. فى مثل هذا المكان الهادئ .
ــ إذن سأذهب وأرى ...

وغاب عنى دقائق ثم رجع بوجه جامد الملامح ..
فسألته فى لهفة ..
ــ هل وجدت غرفة ..
ــ أجل .. ومتى تحب أن تأتى إلى هنا ..
ــ فى صباح الغد .. إن أمكن ..
ــ إذن جهز حقائبك الليلة .

***

وفى صباح اليوم التالى .. قرعنا باب هذا النزل .. وفتحت لنا فتاة ترتدى الكومينوالباب .. وبعد أن أحنت رأسها مرحبة .. قادتنا إلى الداخل على ممشى طويل مفروش بالحصير .. وكانت معى حقيبة ثقيلة ..

وكنت أشفق على من يحملها .. وفى فندق يوكوهاما كانت توضع على عربة صغيرة ذات عجلات ..

أما فى هذا النزل الصغير .. فلم أكن أدرى كيف تحمل .. وقطع على خواطرى .. عملاق برز من الداخل وتناول الحقيبة بيد واحدة وصعد بها إلى الطابق الثانى ..

ولم أكن قد رأيت يابانيا بمثل هذا الطول .. وكان النزل من طابقين وبه قليل من النزلاء .. وأكثر هدوءا مما قدرته ..
وكان على نسق يابانى بحت .. وتحيط به حديقة ناضرة والزهور والتماثيل الخزفية منثورة فى كل مكان .. وكانت أرض الغرف كلها مفروشة بالحصير الجميل .. والأبواب تفتح جانبا وتدور على أكر صغيرة .. والغرفة الواسعة يمكن أن تقسم فى دقيقة واحدة إلى أربع غرف صغيرة .

ومن السقف تتدلى القناديل والبالونات من كل الألوان وتبدو هذه الصور للعيان كلوحات خطها فنان .

وقد خلعت حذائى على الباب الخارجى ولبست خفا يابانيا .. وجلست على حشية فى قاعة الشاى .. وحولى ثلاث فتيات يقدمن لى الشاى والفطائر ..

وكان فى الطابق الذى أقيم فيه سرب من الحسان العاملات يلبسن الكومينو الأزرق والمزركش .

ولقد عرفت أيهن التى تقدم الشاى وأيهن التى تساعد النزيل على خلع ولبس ملابسه.. وأيهن التى تقوم على الخدمة فى المغطس ..

ولم أكن أدرى لماذا توجد المرأة بكثرة فى فنادق اليابان ونزلها .. وأدركت أنها تزاول كل الأعمال السهلة وتترك الأعمال الشاقة للرجل .

وكانت مديرة النزل سيدة أيضا فى حوالى الأربعين من عمرها .. وتجلس على حشية فى المدخل .. وتحرك كل هؤلاء العاملات بابتسامتها ومجرد إيماءة من رأسها .

وكنت أراها .. لا تبرح مكانها إلا قليلا .. وكانت أكثر لطفا من أية سيدة يابانية وقع عليها بصرى ..

ووجدت فى تقاطيع جسمها الجميلة .. وملامح وجهها الحنون ما جعلنى أتأمل ..

فقلت لميشى :
ــ لابد أنها كانت جميلة جدا فى صباها ..
ــ كانت أجمل فتاة فى طوكيو ..
ــ أتعرفها من قبل ..
ــ أعرفها من خمسة عشر عاما .. منذ سقطت علينا القنابل فى الحرب الأخيرة ..
ــ أمتزوجة ..؟
ــ أبدا إنها لم تتزوج قط ..
ــ ولماذا ..؟
ــ لم يوجه لها أحد هذا السؤال ..
ــ إنها لا تزال نضيرة .. وأجمل من كل عروس ووجهها يضئ كالشمع .. وأحسبه فى مثل نعومته ..

ورفع ميشى الكأس الخزفى إلى شفتيه وأغلق عينيه كعادته ولم ينبس ..

وكانت تحيينى على الطريقة اليابانية .. ومن عينيها يطل البشر والإيناس ..

ولم تكن قد طلبت منى جواز السفر .. تأدبا منها فنهضت لأعرض عليها أوراقى ..
وكانت تعرف قليلا من الإنجليزية ..

فقالت برقة :
ــ لا داعى لجواز السفر .. أو أية أوراق أخرى .. إنك هنا فى بيتك .. فقط قل اسمك لتعرفه البنات ..
ــ إسماعيل الشربينى .. ويكفى مناداتى بواحد منهما ..

فقالت ضاحكة :
ــ كلاهما صعب .. على البنات .. اختر لك اسما يابانيا ..

فقلت باسما :
ــ اختار ( ياما ) ..
فضحكت وضحكت ..

***

وفى خلال الأيام الأولى من إقامتى فى هذا النزل لم أعد أبرحه إلا قليلا وكنت أجلس فى القاعة الجانبية .. أشرب الساكى وأحس بمثل النار فى أحشائى ولكننى كنت أشرب لأرى هذه السيدة أكثر نضارة ..

ولم تكن لى أقل رغبة فى التجول فى المدينة فإنى كنت أود أن أستريح فى هذا الحى وأخلص من كتابة المذكرات ..

***
وكان ميشى دائم القعود فى هذا النزل .. منزويا فى ركن .. يدخن ويشرب الساكى وهو يغمض عينيه .. وكل من يراه يتصوره نائما ..

وكنت لا أحب أن تأتى الفتاة القائمة على خدمتى إلى غرفتى فى الصباح حسب العادة اليابانية لتساعدنى على ارتداء ملابسى أو تربط لى ياقة رقبتى وأقاوم هذا والفتاة العاملة تضحك ..

والظاهر أنها حدثت السيدة المديرة بما حدث فجاءت هذه إلى وهى تبتسم وكانت تكتفى بربط الكرافتة .. وضم سترتى على صدرى .. وكنت أحادثها فى هذه الفترة وأشعر بأنفاسها على بعد شبر واحد منى .. وألمس نعومة بشرتها وأنظر إلى أصابعها العاجية الدقيقة .. وهى تتحرك على عاتقى .. وشعرها الأسود الغزير يتموج فوق رأسها .. ويكاد يلمس شفتى ..

كنت أشكرها وأتناول يدها .. بعد هذه المساعدة وأقبلها وكانت تقابل هذه القبلة على يدها بالفرح الذى يغمر القلب ..

ولاحظت ذات صباح .. وهى تقترب منى وتربط لى ربطة العنق أن فى وجهها شيئا ولما دققت النظر تيقنت أنها تضع ما يشبه القناع من البلاستيك على وجهها وقد غطته ببراعة بطبقة من الدهون والمساحيق ليظهر طبيعيا .. وأبعدت عينى عنها حتى لا تلاحظ أنى أتفحصها .. ولكنى شغلت بما رأيت .. وددت أن أتأكد منه وقد أكد لى الأمر .. عندما رأيتها ذات ليلة فى غرفتها تخلع هذا القناع .. وكان الستر منزاحا قليلا .. فلما استدارت لترده ابتعدت مسرعا حتى لا يقع بصرها على .. ولكننى رأيت الحروق تشوه خدها الأيمن كله .. وأسفت لها .. وازداد تعلقى بها ..

ولم أشأ أن أسأل ميشى عن سبب هذه الحروق .. إذ لا يوصل السؤال إلى شئ وإن كنت قد خمنت أنها أصيبت فى غارة على طوكيو .. فى الحرب الأخيرة ..

وقد تأكد لى ذلك دون أن أوجه سؤالا مباشرا لشخص بعينه ..

وكان ميشى يغمض عينيه كعادته .. والدورق الخزفى الممتلئ بالساكى أمامه .. والسيجارة بين أصابعه ..

وكان ينسى كعادته أنى لا أدخن ويخرج العلبة ليقدم لى سيجارة ثم يستدرك .. فيغمض عينيه وهو يضحك ..

ولم أكن أدرى فى أى مكان فى طوكيو مرقده .. وكان كواحد من التسعة الملايين التى تتحرك مع العجلة الدوارة ..

ولقد مزقت الحرب أوصالهم .. ولكنها لم تقتل روحهم .. ولم تغير شيئا من فتوتهم الجبارة ..

***

وكانت المدينة الكبيرة تظل هادئة فيما خلا يومى السبت والأحد حيث يخرج جنود الاحتلال من معسكراتهم أو يطيرون إليها من قواعدهم ...

ومع أننا كنا بعيدين عن قلب العاصمة ولكن جاء فوج منهم فى الساعة الثامنة ليلا وقرع باب النزل فردوهم من الباب ..

وكانت السيدة لا تقبل الجنود فى النزل قط ولاتدخل أحدا منهم .. ولقد تبينت السبب فى وجود اليابانى العملاق فى هذه اللحظة فإن كل من يأتى كان يدفعه إلى الخارج دفعا فى قوة وصرامة .. وحتى الساعة الثانية عشرة عند منتصف الليل لم يكن قد طرق باب القندق طارق جديد ..

وكانت الفتيات قد ضممن أطراف أرديتهن .. وذهبن إلى الفراش .. وبقيت السيدة المديرة قليلا وكانت آخر من يدخل غرفته ..
وظل العملاق فى مكانه هادئا يرقب الباب ..

وكان المستر ميشى .. قد ثقل رأسه من الساكى وأغلق عينيه كعادته ولعله كان ينتظر .. صفير المترو لينهض ..

وبرز شئ فى المدخل أحدث ضجةهائلة قطعت هذا السكون فقد دفع الباب فى عنف .. ثلاثة جنود من الأمريكان ومعهم فتاة أمريكية طويلة ولها ساقان أطول من ساقى الزرافة ..

وتحرك العملاق .. ليصرفهم كعادته بالحسنى فنحوه عن الطريق .. وحاولوا الولوج إلى الداخل .. فوقف فى طريقهم .. وحدث اشتباك رهيب .. وأمسك العملاق بعنق واحد منهم وضغط عليه .. ثم حركه فأخرج أحد العساكر .. خنجرا وطعن العملاق .. فى صدره وصرخت الآنسة وتقدمت نحو العسكرى .. فأسرع إليها شاهرا خنجره ..

وفى أثناء هذه اللحظة الرهيبة دوت طلقة وسقط الجندى .. ولمحت المستر ميشى فى مكانه بعد أن أطلق النار .. يضع فى جيبه شيئا وكان نفس العلبة التى اعتاد أن يقدمها لى دائما كمحفظة للسجائر ..

وتجمع العساكر الأمريكان عليه وطعنوه بالخناجر فسقط فى مكانه ..
وكان ينظر إلى المديرة .. بعينين تفيضان بالحب الدفين ..

وانحنت المديرة عليه وأخرجت المسدس سريعا وناولته لى فوضعته فى جيبى فى خطف البرق .. وأدركت براعتها فى هذه الحركة ..

وعندما قدم البوليس وفتش المكان .. ظللت أنا فى غرفتى .. ولم يدخل على أحد ..

وأحسست بعد ساعة بالهدوء .. وعلمت أنهم خرجوا وحملوا معهم الجرحى .. وسمعت بأقدام المديرة .. ورأيتها تدخل على الغرفة .. وكان وجهها ساكنا .. وقد أدركت من عينيها أن ميشى لم يمت ولكنه سينتهى فى ساعات ..

وقلت لها :
ــ سنذهب لزيارته معا فى المستشفى غدا ..
فقالت :
ــ نعم سنذهب .. معا .. وسأعرفه بما فعلته ..
ــ إننى لم أفعل شيئا ..
ــ لقد فعلت الكثير ..

وتناولت يدها فى غمرة عواطفها لأقبلها ..
ولكننى لم أفعل ذلك بل اقتربت من خدها وشفتيها وأنا أضمها إلى صدرى وكانت شفتاى فوق الشىء غير الحى ولكننى أحسست بالحرارة النابعة من القلب ..

وفاضت عبراتها .. وهى بين ذراعى .. فما أحسب إنسانا ضمها هذه الضمة .. منذ وقع لها الحادث الرهيب وقد شعرت فى هذه اللحظة أنها استردت حياتها كأنثى ...
==============================
نشرت القصة بمجلة الجيل فى 29/8/1960 وأعيد نشرها بمجموعة " عذراء ووحش " وبمجموعة
قصص من اليابان من اعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
=================================